ساعات بعد منتصف ليل كلّ يوم في شهر رمضان، وما أن تنام مدينة القصرين في سُبات سُكون ما سيجلبه النّهار القريب القادم من ضوضاء، يغرق عمّال النّظافة في شوارعها عملاً وتعباً وتنظيفاً لما خلّفته السّاعات الماضية من شقاء ونفايات.
وما أن يمشي الجرّار الفلاحيّ المخصّص لرفع الفضلات على مهل لخطوات، بضجيج تعوّدت به مجموعة من العمّال الّذين أحاطوا به من كلّ الاتّجاهات الممكنة، حتّى يتوقّف عند أوّل تجمّع لما زاد عن النّاس من موادّ مختلفة، لتنغمس المجموعة مجدّداً في مصارعة الظّلام القاتم والنّفايات المنتشرة في كلّ مكان.
مسارات حفظها سائق الجرّار، نزار دخيللي(35 سنة)، عن ظهر قلب. يمسح بقفّازه المتهالك ما تصبّب من عرق جبينه، ويقول بصوت شبيه بالصّمت "أنا أعمل لسنوات بين النّفايات والفضلات، مقابل 400 دينار شهريّاً، أدفع منها فواتير الماء والكهرباء، وكلفة تسوّغ منزل متواضع في حيّ شعبيّ... عن أيّ حقوق يتحدّثون؟"
نزار واحد من مئات عمّال الحضائر الّذين يعملون صلب البلديّة مقابل تنظيف الشّوارع، بأجر محدود، وبامتيازات لا تليق بمن ينظّف ما يخلّفه المواطنون من فوضى على الطّرقات.
يضيف، بكلمات متقطّعة "أنا، الآن، لا أستطيع أن أوفّر كلفة ملابس العيد لطفلين أرعاهما، أجرتي تكاد أن تجعل منّي أحد جياع الأرض، رغم عملي المتواصل لستّة أيّام في الأسبوع..."
ما أن عاد نزار إلى غرفة القيادة الخاصّة بجرّاره حتّى تعالى صوت زميله بسّام الذّيبي(34 سنة)، وهو يجمع ما علق من فضلات في بهو السّوق المركزيّة، منتقداً عدم ترسيمه رغم سنوات عمله الخمس، وغياب الرّعاية الصحيّة والتغطية الاجتماعيّة له ولزملائه.
وزملاء نزار من المرسّمين، بدورهم، يطالبون بعناية حقيقيّة بهذه الفئة من العمّال.
بالانتهاء من تنظيف نقطة السّوق المركزيّة، تنتهي مهام ليلة نزار وبسّام وغيرهما، لتنطلق في السّاعة نفسها من اليوم الموالي. وإن حجب اللّيل بظلمته ملامحهم عن الفضوليّين، وغطّى بسكينته حركيّتهم، فإن مجهوداتهم البدنيّة لم تحجب تعاطف المارّين حذوهم معهم، لكنّ تصريحاتهم المتطابقة تؤكّد أنّهم لا يحتاجون مجرّد تضامن عابر، بل ينشدون حقوقهم الطبيعيّة...
تعليقات
إرسال تعليق